ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا | وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، كتسمية بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها، وسميت بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء، وتسمية لما ورد فيها من تفصيل في أحوالها، وسُميت كذلك لما فيها من التوحيد الخالص، وهكذا دواليك |
---|---|
والخلاصة - إننا لو نشاء لجعلنا في الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها | ثم بين خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوّينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا |
ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال: حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال: ليت بيني وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت أيها الشيطان، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين، والخزي الدائم، والعيش الضنك، والمحل المقضّ المضجع.
2ونحو الآية قوله: « وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله: « أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ » | ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي ومثل هذا المقال المتناهي في الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء، فلم نرسل قبلك في قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم سائرون، نفعل مثل ما فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون |
---|---|
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ؟ أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن، لانهماككم في الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه؟ كلا | ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات - ظنوا أن ذلك من قبيل السحر |
ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } أي: فهل تتبعوني لأجل الهدى؟ { قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } فعلم بهذا، أنهم ما أرادوا اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى.
19ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملا، لا يرسل إليهم رسولا، ولا ينزل عليهم كتابا، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال: { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } أي: أفنعرض عنكم، ونترك إنزال الذكر إليكم، ونضرب عنكم صفحا، لأجل إعراضكم، وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب، ونوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم، فهو من توفيقكم، وإلا قامت عليكم الحجة، وكنتم على بينة من أمركم | { فَأَهْلَكْنَا أَشَدّ } من هؤلاء { بَطْشًا } أي: قوة وأفعالا وآثارا في الأرض، { وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } أي: مضت أمثالهم وأخبارهم، وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والإنكار |
---|---|
ثم زاد في الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل: هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا في القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فما أنتم إلا حمقى جهلاء | قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه، فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله |
والخلاصة - إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهي موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده.